العودة إلى ذاكرة "ديل مار"

شارك
القصيدة
شارك
التدوينة
تم

قبل ١٣ عامًا، بدأت مسيرتي التعليمية في كاليفورنيا، وكنت ممتلئًا بالغربة حتى التقيتُ بالدكتور ديفيد وزوجته آرلين، وانتقلت للعيش معهما في منزل حميمي جميل لزوجين في عقدهما السابع، تخففًا من الوحدة، وإشباع فضولِ تجربة العيش مع أهل البلد، ودُربةً على الإنجليزية.

ديفيد كان مثقفًا جادًا يقضي معظم وقته في القراءة،  لكنه حين يعيد كتبه إلى الرف يصبح ميالاً إلى المزاح والحديث، ولطاقته العالية في الكلام كان على سبيل الدعابة يشير إلى زرّ خفي في ظهره يضغطه من يملّ حديثه.

أما آرلين فكانت امرأة حنونة، عملت ممرضةً، ثم تفرّغت لتقضي وقتها في بستنة حديقة البيت وتُعدّ بالفخار أعمالاً فنية، وتتطوّع لدى الكنيسة والمجتمع المحلي، كانت طباخة ماهرة، لا تتوقف عن إبهارنا بوصفات العشاء التي تجمع ألوان العالم وبهاراته القادمة من أبعد الحضارات. كنا الثلاثة في منزل يطل على المحيط بمدينة Del Mar شمال سان دييغو التي لا يسكنها سوى الأثرياء المتقاعدين، وقلما رأيت فيها من يصغرني سنًا آنذاك.

أنهيت تلك الفترة التي امتدت لعامين ساكنًا معهما ومعوضًا غياب أبنائهما الأربعة وانتقلت إلى مدينة أخرى تبعد ساعتين.. لكنني واصلت زيارتهما أسبوعيًا لأقضي ليلتين فأعود، تاركيْنِ لي باب البيت مفتوحًا في تلك الأماسي توقعًا لقدومي، عدا اليوم الذي انطلقا فجره شمالاً باتجاه لوس أنجلوس لحضور حفل تخرجي من الجامعة بباقة وردٍ لا تزال تعبق في الذاكرة.

قبل شهرين زرت كاليفورنيا، وتواصلت مع آرلين لكنها لم تُجب على بريدي المتكرر، فاتصلت بابنهما، الذي وعدني بإيصال رسالتي لوالدته، وبعد انتظار كانت رسالة آرلين المفاجئة في البريد الوارد، قالت إن حياتهما تغيرت كثيرا، باعا ذلك المنزل الجميل لينتقلا للعيش في مركز لرعاية كبار السن، فديفيد أصبح يفقد القدرة على رعاية نفسه، ولم يعد بمقدورها أن تتابع حالته، ودعتني إلى زيارتهما في المركز.

لم يكن ذلك البيت مجرد صخر إسمنتي عابر، لقد احتضن أجمل ذكرياتي وأشد مراحل حياتي تأملاً واتصالاً بالذات وبالآخر الغريب عني لغة ودينًا وبلادا.

ومنذ نزلت في المطار كانت زيارة مركز الرعاية هي الأشد إلحاحًا علي، دخلتهُ والقلب مثقلٌ بالذكريات، أطلعتني على شقتها الصغيرة داخل المركز، وفتحت لي غرفةً فارغة قالت هنا كان ديفيد، قبل أن يداهم ذاكرته الزهايمر، أخذوه إلى قسم المتابعة المكثفة من فريق طبي، وأصبحت تزوره في الأسبوع مرتين، وقد انخرطت بأنشطة تلهيها، بدأت تبستن واجهة المركز بالورود، واشتركت في نادٍ للقراءة مع المسنّين، ودروسٍ للكمبيوتر، ونادٍ للحزب الديموقراطي!

نهاية جلستنا أوشكتْ أن تصطحبني إلى ديفيد، لكنها خشيتْ أن ترهق ذاكرته.. ودّعتها وهي تحيي العابرين في بهو المركز، وتتباهى أمامهم بزيارتي رغم مضي عقد من الزمن على عيشي معهم، ثم أخذت تبكي وهي تشيعني بباب الخروج..

بعد أيام، أخبرَتْني أنها تحدثت مع ديڤيد عن زيارتي، ووصفت ابتسامته بابتسامة العارف، لكنها تساءلت مثلي "من يدري، هل يتذكر حقًّا؟"

مع آرلين في آخر لقاء - أبريل 2025
ملقيًا القبض عليهما في مقهى الحي 2013
غرفتي في منزلهما
إفطاري في باحة البيت الأمامية
عشاء إحدى الأماسي
ديڤيد وتلفاز الظهيرة
آرلين وهي تمارس هوايتها
إطلالة المنزل على المحيط الهادي لحظة الغروب
آرلين وهي تُبستن حديقة المنزل
مشيًا على الأقدام أجلس كل يوم هنا
شاي العصر في حديقة المنزل الخلفية تحت أشجار البرتقال والليمون
ديڤيد وهو يحلق شعر كلبه "كوكو"
أعددنا طاولة الطعام مستعدين لضيوف تلك الليلة
شحنة كتب وصلتني لتؤانس غربتي
د. ديڤيد مناقشًا تقارير طبية وصلتني من والدتي لإحدى الحالات الصحية في الرياض، بوصفه طبيبًا متخصصًا في أعصاب الأطفال.

عبدالله الفارس
متخصص في المجالات الثقافية، وتعزيز العلامة الشخصية والوطنية