نجيب محفوظ في قصر الجبلاوي!

شارك
القصيدة
شارك
التدوينة
تم

كثيرٌ من الروايات والكُتُب قد لا تجد فرصةً لاستيعابها وهضمها إلا بعد مرور سنوات، وأحياناً عند القراءة الثانية أو الثالثة. إن سر القراءة، قد يفشيه لك الكتاب مع أول الصفحات، أو لا يفشيه إلا بعد مجاهدة  ونضوج فكري.

هذه هي قصتي مع رواية "أولاد حارتنا"، للروائي المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ، هذا  العمل الإشكاليّ، الذي أثار جدلًا واسعًا لفترة طويلة. لقد قرأته في سن مبكرة بدافع الفضول، لكن لم أستسغه حينها، وربما لم أستوعبه -وهذا هو الأرجح- فأعدت قراءته مؤخرًا، ليؤكد لي نزاهة نوبل للآداب -على الأقل في هذا التتويج- عندما مُنحَت للأديب المصري الكبير نجيب محفوظ عام 1988.

لقد رفع نجيب محفوظ سقف الرواية العربية مُحلّقاً بها في سماء العالمية، كما صرّحتْ الروائية الجنوب إفريقية، الحائزة على نوبل عام 1991 نادين غورديمير، بتأثرها بنجيب، بل وأعلنتْ عن انتمائها للأفق الذي ينتمي إليه هذا باعتباره أيضًا من إفريقيا، مستعينةً بهذا الانتماء على التحرّر من قيد التنميط الذي وضعها في إطار كونها بيضاء ويهودية، وأنها استحقتْ الجائزة لهذين السببين لا لكونها من العالم الثالث.

يُرسّخ نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" براعة السرد، وقدرة التخييل، وترميز الصراع بين الخير والشر، في قالب فلسفي يَستلهم قصة بدء الخلق، وينطلق منها إلى إظهار مشكلات الإنسان منذ الأزل. وقد أثارت الرواية زوبعة وسجالاً دينيًا، منذ أن نُشرت على أجزاء بجريدة الأهرام في أواخر الخمسينيات، ثم مُنعت من النشر سنواتٍ عدّة. وجرّاء هذا الجدال حدثتْ محاولة اغتيال للروائي بطعنة غير مميتة في عنقه، عام 1994.

عندما أعدتُ قراءتها قبل شهر، كنت أعود للبيت كل ليلة متشوقًا لأكمل الرواية. هكذا كنت أعيش أجمل أيامي، انهماك في أشغال النهار، وموعد مع "أولاد حارتنا" في الليل، حتى أنهيتها غير راغب في النهاية. قرأتُ لنجيب أعمالاً مختلفة، وبديعةً كذلك، لكن هذه الرواية كانت أيقونية، فإذا كانت "مائة عام من العزلة" لماركيز أيقونة الأدب اللاتيني، فإن "أولاد حارتنا" هي أيقونة الأدب العربي.

يأخذك العمل في نزهة مشوّقة حول قصة الكون وصراع البشرية، ويستحضر الروائي -عن قصد- شخصياته التي تبدو متقاطعةً مع قصص بعض الأنبياء، أصحاب الرسالات الكبرى، ويُظهر مدى توغّله في الفلسفة الإنسانية، وتتبّعه قصص القرآن الكريم، محاولاً أن يسرد قصة الكون بأسلوب تخيليّ فلسفيّ عميق، مناقشًا ما حدث للبشرية.

وينطلق في وصف الحارة بعبارة تحتوي على مفتاح شخصية الرواية: "آفة حارتنا.. النسيان" فما أن ينتهي عصر ظالم، حتى يولد عصرٌ آخر تُستعاد فيه ذات المشكلات الأزلية، الظلم والجشع. وتنتهي الرواية بشخصية ترمز إلى عصر العلم، الذي به تتقدّم الأمم وتتقهقر الخرافات.

إن ما يميّز نجيب محفوظ في جميع أعماله، قدرته على تصوير المجتمع المصري، والحارة المصرية، بتفاصيلها، وأغنياتها الشعبية، وموروثاتها الاجتماعية والثقافية، لا يُغيّب شيئًا من الواقع إلا ويمزجه بالسرد التخيلي، لتتصوّر بعينيك -وإن كانت في آخر الآرض- الحياةَ في مصر، حد أن يفحّ صدرك من دخان "الجوزة". وهذه إحدى صور القوة الناعمة للأدب، حين تتصوّر مجتمعًا وأمكنةً وحكايا في أعمال روائية.

ويمكن وصف رواية أولاد حارتنا بأنها إعادة تأويل للأحداث التاريخية، والتمثيل بها على الواقع الحديث، فما كان لنجيب محفوظ أن يبتعد عن البيئة المصرية التي خبرها وامتزج بها، لينقلها إلى العالمية، متخذًا تفاصيل المكان أقنعة لعرض مشكلات الإنسان، وتشريحِ القيم، وإيقاظِ الشعور بالتكافل الاجتماعي والعدالة، والتخلصِ من الأثَرة والفردية المتسلطة... إلخ. كل ذلك كنت أجده وأنا أستمر في صفحات الرواية دون أن أفقد الانبهار الذي يمنحه الفن الخالص للقارئ.

هناك أعمال كتُبت لتُقرأ، ثم تُنسى، مثل فقاعة مهما كبرتْ فإن مصيرها الاختفاء. وهناك أعمال حقيقية كُتبت للخلود، ولتوضع في رف الكلاسيكيات، جنبًا إلى جنب مع ألف ليلة وليلة والإخوة كارامازوف وأعمال فيكتور هيغو ودانتي.. وغيرهم من نخبة العقول التي خبرتْ أسرار النفس البشرية وصاغت نماذج أدبية تضيء لها الطريق. وبلا جدال، رواية "أولاد حارتنا" جديرة بأن توضع في ذات الرف بين الكلاسيكيات الخالدة.


عبدالله الفارس
متخصص في المجالات الثقافية، وتعزيز العلامة الشخصية والوطنية