في الماضي، كان للرحالة العربي الأشهر، ابن بطوطة، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، قصب السبق، في تدوين رحلاته التي امتدت من المغرب العربي حتى الأجزاء الشرقية من قارة آسيا. وقد لا نبالغ إن قلنا إنه أحد مبتدعي السياحة الثقافية منذ حقب باكرة. ولو أمعنا النظر في سفره "رحلة ابن بطوطة" لوجدناه شاملاً، لما تُعرف به السياحة الثقافية في العصر الحديث. أيضاً يمكننا أن نربط بين انتشار أدب الرحلات -وقد أضحى أدباً مستقلاً ومُعاصراً- وازدهار السياحة الثقافية.
في التسعينيات الميلادية من القرن العشرين، باتت السياحة الثقافية (Cultural tourism) ضرباً رئيساً من ضروب السياحة العالمية، ومفهوماً واسعاً يشمل التعلم والاكتشاف والتجربة، والسفر إلى وجهة سياحية ذات إرث وتراث ثقافي متفرّد، سواء كان تراثاً ملموساً أو غير ملموس. وتشمل التعرف على الفنون والعمارة والتراث التاريخي والثقافي والغذائي والأدب والموسيقى والصناعات الإبداعية، فضلاً عن الثقافات الحية في أساليب الحياة المختلفة عبر منظومة القيم والمعتقدات والتقاليد الخاصة بهذه المجتمعات.
وقد التفتت كثير من الدول إلى أهمية السياحة الثقافية وعوائدها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعملت على تعزيزها وتطويرها لتضحي رافداً اقتصادياً مهماً، وجسراً تواصلياً ناعماً بين الثقافات، ويمنح ثقلاً ثقافياً للدولة وصورتها على الصعيد المحلي والدولي؛ إذ تشير تقارير إلى أن السياح الثقافيين ينفقون 30% أكثر من السياح التقليديين، مما يجعلهم مصدراً مهماً للدخل الاقتصادي في العديد من الدول، ففي فرنسا، تُسهم السياحة الثقافية بنسبة 40% من إجمالي إيرادات السياحة.
تنَوَّعَ مفهومُ السياحة الثقافية، والذي يكاد يكون شاملاً لأنواع السياحة الأخرى، نظراً لتوسع مفهوم الثقافة نفسه، فهنالك سياحة الآثار، والتعرف على الأماكن التراثية والمعالم الأثرية والمتاحف في البلدان، وكذلك السياحة الدينية، كالسفر إلى الأماكن المقدسة، مثل الحج والعمرة، وزيارة المعالم ذات المكانة الدينية. وتُعد تجربة الأطعمة والمأكولات التي تتميز بها كل بلدة، نوعاً آخر من السياحة؛ كما تشمل السياحة الثقافية أيضاً تعلّم اللغات الجديدة، أو التدرّب على ممارستها مع متحدثيها الأصليين.
وتعد السياحة الثقافية، مدخلاً للتعرّف على الفنون بجميع أشكالها، فكل بلد يتميّز بفنّ خاص، مثل المسارح والرسم والرقص والغناء والعزف، وأيضاً يندرج ضمنها اكتشاف عادات وتقاليد وقيَم تتفرّد بها بعض الأمم والقبائل والشعوب.
وتشير الأرقام إلى تضاعف عدد السيّاح المهتمين بالسياحة الثقافية، وإن لم يعرفوا قط هذا المصطلح، مثل السياح الذين يسافرون إلى مصر ليشاهدوا الأهرامات، ومن يذهبون لتجربة البيتزا النابولية في إيطاليا، والحج في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، وتمثال الحرية في نيويورك، ومكتبة شيكسبير في باريس، والفن الجرافيتي على جدران ملبورن، وتجربة المبيت تحت النجوم وبين تضاريس وآثار العلا، والأمثلة لا حصر لها.
وتوسّع مفهوم السياحة الثقافية، مع الثورة الرقمية التي يشهدها العالم، إذ ابتُدعت تجارب "الجولات الثقافية الافتراضية"، لتتيح للناس زيارة المتاحف والمعالم الثقافية من منازلهم، مثل متحف التاريخ الطبيعي في لندن. هذه الجولات باتت شائعة خلال جائحة كورونا وأدت إلى زيادة الوعي الثقافي على نحو جليّ.
يُحسب لليونسكو دورها في توثيق وترويج عدد من المعالم التراثية في عدد من البلدان. فقد أُدرجت 8 مواقع تراثية سعودية ضمن قائمة التراث العالمي لدى اليونيسكو. وقد التفتت السعودية إلى السياحة الثقافية بفضل رؤية السعودية 2030 عبر تطوير المنظومتين السياحية والثقافية لتُضحيا متكاملتين، فضلاً عن تطوير البنى التحتية في شتى مناطق المملكة ذات الإرث الثقافي العريق، من حضارات ومعالم وتراث خُصت به أرض السعودية. وتشهد المملكة نقلةً نوعيّة في تعزيز المشهد السياحي الثقافي، مؤكدةً على كنوزها الحضارية والثقافية.
آمل أن تكون هذه المقالة القصيرة فاتحةً لشهيّة القارئ في ضروب السفر الثقافي، وفرصةً ليضاعف المرء حصته من المعرفة عبر التأمل والتجوّل في بلدان العالم.
ألقاكم في المقالة القادمة حول "الأدب.. مسوقاً للسفر".