تمظهرات المدينة في رواية (اسمي أحمر)

شارك
القصيدة
شارك
التدوينة
تم

قبل أن يتخذ أحدنا قرار السفر إلى بلدٍ ما بُغية السياحة، فإنه يستعرض الكتالوج القابع في ذاكرته، حيث يضم صورًا لمعالم وقعتْ في قلبه موقعًا حسنًا وحفظها في ملف الأمنيات، ريثما تتاح له فرصة تحقيقها وضمّها إلى ألبوم الذكريات. ومن البديهي أن مصادر تلك الصور أتيحت له مما سمع وقرأ بشكل عابر، ومن معروضات الشاشة ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها، لكنها تظل غير كافية لبناء تصور مقارب للواقع، لأسباب مختلفة تعود إلى الغرض المحدد من منتجي تلك المصادر، فغالب الظن أن الإطار الترويجي لا يستوعب جميع عناصر المكان، بل يكتفي بإبراز الجانب الإيجابي المتفق عليه وفق نمط الاستهلاك العام. غير أن مجال الإبداع والفن يمتاز بتقديم المكان دون تحيز، ودون خضوع للقوالب التي تُغفل الصورة الكاملة للأفق المكاني الذي يتخذه المبدع مسرحًا للأحداث.

ففي الرواية تحديدًا يحضر المكان بمعظم التفاصيل المستوفية لفضول المتلقي، يمكننا أن نختار من قسم الروايات المترجمة في المكتبة العربية مثالاً رواية اسمي أحمر، للروائي التركي الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام ٢٠٠٦ أورهان باموق، ونستقصي تمظهرات المكان في فصولها ونحاول فهم دور الأدب في تعزيز السياحة الثقافية، لنرى مدينة إسطنبول بوضوح بانورامي،  لا باعتبارها مجرد موقع لتصوير مشاهد الرواية؛ بل كيانًا متعدد المستويات، وفق وجهات نظر متعددة تتجلى تفاصيله مع الشخصيات التي خُلِقت من تراب المدينة ودرجتْ تحت سمائها وتشكّلت من ذراتها ومائها ومزاجها واستمرت تروي تراثها رغم انقضاء قرون على الزمن الذي تنتمي إليه أحداث الرواية.

في عصر غابر، كان الفن في إسطنبول مجالاً خصبًا لنيل رضا السلاطين، وتحديدًا فن النقش والرسم والزخرفة. ووسط الحرفيين في المجال، تندلع صراعات بين التوجّهات والمدارس. هذا الموضوع الخصب استفز باموق لكتابة روايته، ليجده متَّكَاً لإسقاطات تاريخية، ومنطلَقًا لتتبع خريطة المدينة، ومن الواضح أنه وُفِّق في إعادة ترميم المدينة، واستعادة أحيائها وشوارعها ومبانيها، وإحياء سكانها المصبوغين بطابع العمران في حقبة غابرة. وجاء أسلوبه مقنعاً للقارئ الذي تسحره المدن التاريخية، وباعثاً للتشويق في نفس كل من يتطلع لزيارة بلدٍ ما واكتشاف آثاره التاريخية، سواء في معالمه المادية أو المعنوية. ولا يخفى أن المكان الجدير بلفت الأنظار يجب أن تكون وراءه قصةٌ أو أسطورةٌ ذات براهين تصمد عند الاختبار.

في الفصل الثاني من اسمي أحمر، يبدأ "قُرة" سرد القصة من وجهة نظره بجملة صريحة تفتح شهية المتلقي وتعِده بجولة لا بد أن تكون ماتعة في المدينة:

"دخلتُ إلى إسطنبول المدينة التي وُلدتُ وترعرعتُ فيها بعد غياب اثني عشر عامًا كالماشي في نومه..."

سيستمر العرض طيلة خمس صفحات، خلالها تظهر تضاريس متنوعة، سيرى الجبال المغطاة بالثلج، والمدن المهمومة، والمقبرة المطلة على الخليج، والتراب المبتل، والزوايا المظلمة، وسيدخل بيوتًا تملكها نسوة فقدن أبناءهن في الحرب واضطررن لتأجيرها لأشباههم، ليجدن بعض المواساة، وثمة أحياء يسكنها العرب، وأزقة محصورة بين صفين متقابلين من البيوت المتطاولة... وسوف تواجهك أسماء الحارات بإيقاعات غريبة، مثل منطقة (تشمبرلي طاش)، وأشجار (الأهلامور) و(الكستناء). عندما تقرأ عنها في الرواية، لن تحتفظ بها في ذاكرة كما احتفظت بصور ثابتة لكتالوج يحوي أشكالاً عادية لأماكن محددة ومغرية فحسب، وإنما ستقرأ حالة إنسانية حية مرتبطة بكل موضع، وستعانق أحاسيسَ حقيقية تنبع من الأزقة، كأنها كائنات عاقلة وواعية، تخاطبك شخصيًا، وترسل لك عبر الأثير نداءً دافئًا، تدعوك عبره إلى الزيارة.

إن ما يغرسه العمل الفني، وخصوصا الأدب، في وجدان الناس، قد يضاهي الواقع وأثره في نفس الكائن؛ فالشواغل النفسية والظروف الخاصة قد تجعل بينك وبين التأثر سدّاً يمنعك من الإحاطة بكل ما في المكان من آثار مهمة، غير أن الروائي المقتدر، يقدم لك الصورة كاملة ويهيئ لك الجو لتكوين انطباع يلائم ما يقترحه المكان للنظر، ويحفزك لتُعدّ حقيبة السفر.

عبدالله الفارس
متخصص في المجالات الثقافية، وتعزيز العلامة الشخصية والوطنية